يدور مرتبكا أمام بيت الشعر ، ويفكر ويفرك أصابعه ، يفكر كيف يدبج الحديث ويبدأ به ، يختار الكلمات ويعيد ترتيبها ، يبدل بين المهم والأهم ، ينساق في حوار وهمي داخل عقله . يلعن نفسه ويؤنب القدر ، يضرب برجله الرمل وينثره أمامه . غاضب من نفسه ومن الواقع ، يتمنى لو أن التاريخ لم يغير شيئا من حياته .
تقترب سيارة قديمة ( جيب ) يسمع صوتها الغليظ ، أصوات أجزائها المفككة تشير إلى أنها سيارة ( أبو صطام ) ، تلك السيارة بصمة لم تفارق ذكرياته منذ أن ولد ومازالت تزرع الذكريات في آذان أطفال هذه الهجرة المترامية الأطراف ببيوت الشعر وأهلها من البدو .
تتوقف أمام الخيمة ، ينزل أبو صطام سريعا ويتوجه لباب الراكب من الجهة الأخرى . يفتحه ويمسك بيد رجل طاعن في السن ، يعصب غترته فوق رأسه ، ويضرب بعصاه يتلمس الطريق أمامه ، يقوده أبو صطام نحو الخيمة ، يسرع الشاب ناحية الشيخ ويقبل يده ويبادر بقيادة الشيخ بدلا من أبو صطام :
- أين كنتم منذ الصباح .
- لقد حضرت لأبوك اليوم كي اتقهوى عنده ، ولم يكن أحدا هنا ، وطلب مني أن آخذه صوب إبله .
يقطع الشيخ حديث الاثنين ويخاطب الشاب ممستبشرا والابتسامة ترفع تجاعيد وجهه لتصبح كالابتسامات المتراكمة حول فمه .
- لقد انجبت ( غيمة ) بكرة شعلاء .
- حقا ، مبروك ، ولمن ستهدي البكرة هذه المرة .
يتوقف الشيخ قليلا ويغرز قدميه في الأرض وكأنه جذع تمتد جذوره إلى العمق ، ينفض يد الشاب من يده :
- ( غيمة ) وكل ذريتها لن تبعا ولن تهدى هي ما بقي من ذكرى ( أم عبدالله ) ولن تكون سوى لأختك شيخة من بعدها .
- ولكنك بعت كل إبلك و شيخة لن تستطيع أن تقوم على خدمتها أو رعيها .
- ستأخذها إن شاء الله معها إلى بيت زوجها حين يحين نصيبها .
تجاهل الشيخ كلام ابنه والذي يثير في نفسه غضب قديم ، لقد ذهب أبناءه إلى المدينة ليكملوا تعليمهم في الجامعات وليبحثوا عن أعمال ووظائف ، وحتى هذا الشاب الأخير لم يكن يقوم بمهام الرعي ومراعاة الإبل بعد إخوته ، أحاديث كثيرة تكررت في رحيل كل ابن من أبنائه ، حاول جاهدا أن يقنعهم بالبقاء معه والعيش برزق تلك الأنعام التي يملكها ، لكن الحضارة تلمع على أفاق هذه الصحراء وتغري أبناء البادية على الرحيل .
- حسنا يا والدي ، عسى أن تكون بركة لها ولزوجها إن شاء الله .
يصل الجميع إلى داخل الخيمة ويجلسون ، يبادر أبو صطام بالإستئذان والمغادرة ، يقسم عليه الشيخ كي يبقى للغداء ، لكن الآخير يرفض ويقبل جبين الشيخ ويغادر موصيا الشاب بأبيه خيرا .
- لا عليك يا عم ، ولا توصي حريصا .
ابتسامة ساخرة على فم الشيخ وحلقه يحاول بلع كومة من المرارة المتجمعة على مر الأيام ، لم يعد يهمه كثيرا أن يعلن سخطه على أبناءه ، فـ شيخة بألف شاب ، ويكفيه في الدنيا كلها أنها بجانبه .
يغادر الضيف ، وتقترب شيخة سريعا من والدها تقبل يده ، خطواتها الشريعة كفلو هارب ، وجسمها مشدود بثوب قديم ورائحة الحطب تفوح منها ، تنظر إلى أخيها بعينان ساخطتان ، ورغم كل الغصب فيها تظل جميلة كشمس في أول الصباح ، يرتبك الشاب ويزداد الثقل على ما كان يحصر لقوله ، ولكنه يستغل توبيخ أخته له على تجاهله موعد ذهاب أبوه للإبل ، وينفجر بكل ما لديه متجاهلا كل الديباجات والترتيبات التي ظل نهارا كاملا يعمل عليها .
- لقد كنت ابحث عن مستقبلي ، لم يكن بوسعي البقاء هنا من أجل الإبل أو غيرها . لقد تخرجت من الثانوي وكان لا بد لي أن أتقدم على إحدى الجامعات .
- إنك تبقى من أجل أبيك .
صغيرة هي ، بل الأصغر في إخوتها ، لكنها كانت إمرأة ناضجة منذ أن فارقت أمها الحياة وهي في سن العاشرة ، فظلت ترعى بيتا مليئا بالرجال وكأنها أم حنون لهم جميعا .
- لم يبقى سوى تلك الناقة الجرباء التي اشغلته ولو أنه باعها لاستراح منها .
ضربة سريعة بالعصا تجعله يقفز من مكانه ويتراجع للوراء ، الشيخ يحبو على يديه ويتجه ناحية الشاب لاعنا وشاتما إياه .
- إنها ناقة أمك أيها العاق ، والجرب في نفسك التي أفسدتها المدينة .
تمسك شيخة بوالدها وتهدئه وترجعه إلى مجلسه وترفع ثوبه على ساقيه وتقبل يديه ، وتطمئنه وتغمز لأخيها بأن يغادر كي لا يزيد من غضب والدها . لكن الشاب يقف بعيدا ويرمي بآخر الجمل .
- سأذهب لأخي عبدالله في المدينة .
- اذهب إلى غير رجعة
- حسنا سأذهب إلى غير رجعة كما تريد يا والدي .
رغم أن هذه الكلمات لم تكن من القلب ، ولم تكن مقصودة ، وخرجت يخالطها الألم والقهر من فم رجل طاعن في السن . تمنى أن يحوف به أبنائه في كبره وأن يبقوا إلى جانبه حتى آخر حياته ، لكن أقدار الدنيا لا تأتي بما يتمنى الناس وتعاكس رغباتهم لتجعل الحزن عنوانا دائما تجاه هذه الحياة وصروفها .
يغادر الشاب ويركب سيارة العائلة الوحيدة وهي شاحنة صغيرة من نوع البك أب قديمة ولكنها تقوم بخدمتهم .
- هل ذهب يا شيخة .
- نعم يا أبي .
- لم يغادرني أحدهم إلا وهو غاضب وحزين .
- لا عليك يا أبي هم يعلمون أنك تحبهم ، وتراهم كيف يعودون لك بارين طائعين .
- ليتني ضممته على صدري وقبلته وتمنيت له التوفيق ، لم أهنئه حتى بتفوقه بالدراسة .
- هو يعلم أنك فخور به ، ولقد قال لي : أنه يجتهد كيف يرفع رأسك .
- وفقهم الله ورعاهم ، لم أرد لهم سوى الخير والله يا شيخة .
- أعلم يا والدي أعلم ذلك .
كانت كلماتها كثيرا ما تهون عليه ، ولكنه يعلم أنه قاسي ، ويندم على كل كلمة قاسية تنطلق من فمه ، لم يكن يسلم من لعناته وشتائمه سوى شيخة ، التي تقرب ( طاسة ) _ إناء _ مليء بالماء وتبدأ بغسل وجه والدها وتزيح عنه عمامته ، وتكمل على يديه ورجليه ، تبرد جسمه من حر هذه الصحراء ، وتزيل عن كاهله أغبرة التعب والانهاك . يدعو لها مع كل مرور ليديها على جسمه ، يحاول اعتصار عينيه التي أكلهما الجدري في مرحلة ما ، ولم يبقي له ذلك المرض حتى المدامع ، الحزن في حياته جاف بجفاف جفونه . كتلك الصحراء التي يقطنها .
في المدينة يجتمع الأبناء لنقاش أمر مهم ، ويجلس الصغير في زاوية من مجلسهم هذا وعلى وجهه ملامح الإستياء . عبدالله هو الابن الأكبر في الأخوة الثلاثة ، وهو أول من غادر البادية وشق طريقه في المدينة حتى أصبح رجلا مهما وله وظيفة على قدر كبير من الأهمية .
- حسنا ماذا نفعل الآن ، لقد أتى خالد ولم يبقى هناك أي شخص يقوم بوالدنا .
- هناك شيخة وأبناء العمومة كلهم من حوله ، ولن يحتاج منا سوى زيارته من وقت إلى آخر .
هكذا نطق الاخ الأوسط ، محمد بارد بطبعه ووجد نفسه دائما في خانة بعيدة عن المشاكل ، فالأولوية تقع على الكبير وحين يتركها له فهو يمررها إلى الأصغر . بروده هذا يكرهه الجميع ، ويعلمون أن والده لم يكن يقسو عليه مثلهما . فلقد كان صامتا يقوم بأداء واجباته دون أدنى تذمر .
- ولكن والدنا يا محمد يحتاج أبنائه حوله .
- إذن اترك وظيفتك واذهب للسكن معاه ، فأنت الأكبر والأجدر للقيام بذلك .
الصغير في زاويته تنفرج أساريره ، فكلا الأخوين مازالا يتحاوران حول نفسيهما ولم يحملاه مسئولية أي شيء حتى الآن .
- لماذا لا تذهب إليه أنت .
- لقد قلت له أن يأتي وتعلم تماما أنني بنيت له منزلا بجواري كي يسكن فيه ولكنه لا يريد غير البادية ولن يعيش في أي مكان آخر .
- هل تقصد أنك فعلت شيئا لم افكر به أنا أيضا , لقد سبقتك ولكنني اعرف والدي .
- إذا كنت تعرفه أكثر منا فتحمل أنت المسئولية كاملة .
يهم خالد بالحديث لكن محمد يشير له أن يصمت ، لأن الأجواء بدأت تتكهرب ولا يحتاجون لكلمة أخرى من شاب مراهق يبادر دوما بالحلول السهلة . لكن خالد لديه كلام لن يصمت عليه ، ويجد نفسه مسئولا بقدر مسئوليتهم ، ولم يعد هناك كبير ولا صغير حين يصبح الأمر متعلقا بوالدهم .
- لا سأتحدث يا عبدالله ، إن أبي يهمني مثلكما تماما ، من حولنا أشخاص كثر مثل والدنا ، وفرقه عنهم أنه أعمى فقط ، لقد ذهب أولادهم وغادروا وتركوا لهم عاملا يقوم بشؤونهم ويرعى أنعامهم . ويزورونهم من وقت إلى آخر ، ونحن ثلاثة لو زاره أحدنا كل إسبوع سنصبح دائما قريبين منه .
- يبدو لي حل جميل . ما رأيك يا عبدالله
- ولكن أين نحصل على عامل نثق فيه .
- لا عليك سأختار من مؤسستي أكفأ الأشخاص وأرسله إلى هناك وأزيد في راتبه كي لا يتذمر .
- حسنا على بركة الله ، وأنت يا خالد قم باكرا كي نذهب سويا إلى الجامعة ونحصل لك على مقعد فيها .
- تصبحون على خير
- وأنت من أهله .
يصمت الأخوين محمد وعبدالله قليلا ، وكأن لديهما أمر عالق لم يتحدثا به أمام خالد ، هناك شيء آخر منسي . شيء يكمن في ضميرهما وضمير المجتمع ولكنه لا يظهر إلى السطح إلا عندما يصبح معقدا لدرجة تمنع ابتلاعه .
- ماذا عن شيخة يا عبدالله ، لقد أصبحت إمرأة ناضجة وسوف يأتي نصيبها قريبا .
- هذا ما أفكر فيه دائما ، هي أشد عنادا من أبي وإلا كنت أحضرتها معي هنا وجعلتها تكمل تعليمها .
- لا أعني هذا فقط ، كيف سنأمن عليها مع شيخ كبير أعمى وعامل .
- ألم تقل أنك تثق فيه .
- لم أقصد العامل نفسه ، فأولاد الحرم كثر في تلك الأماكن يا عبدالله .
- لقد عشنا زمنا هناك ولم نسمع عن شيء من هذا ، وأبناء عمومتنا وهجرتنا آمنة جدا والنساء يرعين ويتجولن في سعة من أمرهن .
- حسنا أحببت فقط أن اذكرك كي لا نترك شيئا للزمن ونندم بعد ذلك .
- الله يستر كما ستر على من قبلنا . والله يكتب كل خير .
انفض مجلسهم وفي هذه الأثناء كان الليل أصفى وأهدأ يكتنف خيمة أبو عبدالله ويجعلها قطعة من الصحراء كتل أسود يزداد سوادا مع الليل ، لا تعرف إن كان نائما أو لا ، لكنها تجلس على رأسه وتنظر إلى النار المشتعلة وإلى الأفق المتلامع بالنجوم ، تفكر بإخوتها وأمها ، تتسائل عما يخبيء القدر لها أيضا ، لقد ذهب آخر رجال هذا المنزل ، وأصبحت إمرأة ورجل ، وتكاد أن تفقد إنوثتها من أجل هذا الأب الحزين . تحبس دمعة عصية ، ويزداد تراكم البرد بين أضلعها ، لم يكن برد الطقس بل الخوف ، الذي تشعر به للمرة الأولى ، المكان خالي جدا ومقفر جدا ، تقترب من رأس والدها وتستأنس بأنفاسه ، وتشعر بأمان ، يحس بها ويلتقط رأس ابنته ويضعه على ذراعه يطلب منها أن تنام بجانبه ، شعر بخوفها ودخله بعضا من همها ، تغفو كظفلة سرق القدر منها طفولتها ، يسرح شعرها بأصابعه .
- شيخة لقد أصبحت إمرأة ، وكم كنت اتمنى أن أراك كي تقر عيني بجمالك .
- لست جميلة يا أبي .
- بل أنت أجمل بنات قبيلتنا . وأمك كانت كذلك قبلك .
- هل رأيت أمي يا أبي ، ألم تكن أعمى قبل زواجك بها .
- لقد لمست وجنتيها بيدي ، وسرحت شعرها كما أفعل معك الآن ، لقد كانت شابة جميلة متأكد من ذلك .
- نعم يا أبي لقد كانت كذلك حتى في كبرها .
- ولا أبد أن تكوني مثلها .
يمرر يده على خديها ، ويشعر ببعض الخشونة التي نحتتها رياح الصحراء . يحزن على ابنته الوحيدة التي لم تعش رفاهية ولم تجد وقتا لتهتم بنفسها ، كانت دائمة العناية به وبإخوتها ، يدعو لها ويبدأ بجر ألحان من البادية كي يملأ عالمها صخبا ويجعلها تشعر بأن الدنيا مكتظة بالأمان والطمأنينة ...
ينسرق الليل بهما ويصحو الأب ليؤذن للفجر ، تسمعه وتظل ساكنة في مكانها تسمع كيف يذوب صوت والدها في أفق السماء ليصل أقاصي هذه الصحراء ، تتخيل الناس يصحون لصلاتهم على صوته ويدعون له ويكبرون من ورائه ، تراهم يجتمعون وتتمنى لو يحضرون إليهم . تنهض من مكانها وتحضر الماء لوضوء والدها ، كانت قد صنعت ممرا من الرمل من موضع نوم والدها إلى مكان خلوته ، حفرت الأرض وجمعت كثيبا متصلا على جانبي تلك الحفرة ، حيث يضع والدها خطواته ويصل إلى مكان وضوءه ، وما أن تنتهي خطواته حتى تصطدم بإناء الماء . تعودت فعل ذلك عندما بدأ أخوها الصغير بالغياب عن المنزل مع أبناء عمه . وفرح والدها بهذه الفكرة التي تسهل عليه صلاته .
يخطو في ذلك المرر كملك واثق الخطوة ، حتى عصاه لا يحتاجها هنا ، كأن ابنته تمسك بيده حتى يصل إلى وجهته ، يدعو لها مع كل خطوة ، ويسمعها وهي تجمع الحطب وتطبخ القهوة له ، لم تنقطع عادته تلك ولم تقطعها ابنته ، ما أن يلتفت عائدا إلى خيمته على نفس الممر ، كي يصلي حتى يتلمس أطراف السجادة تنتظره حيث بدأ خطواته ، يصلي ويجلس قليلا يسبح ثم يعتدل في مكانه ليشعر بدفء الحطب وقد توهج ورائحة القهوة تملأ أنفه وتنعشه ، يشرب قليلا منها يستامر مع ابنته قليلا يتحدثان عن ( غيمة ) ويستشيرها في اسم لابنتها ( البكرة ) ، يتبادلان الأراء ، تسأله ما لونها :
- إنها شعلاء .
- ولماذا شعلاء وأمها وضحاء .
- لأن والدها كذلك .
- حسنا مادامت شعلاء سنسميها ( وهج ) .
- ماذا يعني ذلك ، لم اسمع بهذا الاسم من قبل ولكن كما تشائين .
تفرح وتبتسم وتقبل جبين والدها وتستأذنه للذهاب وإكمال نومها حتى إشراق الصباح ، يذأذن لها ، ودون أن يذكرها ، تقرب منه إناء ماء كي يشرب منه متى أحس بالعطش ، تغادره ويسمع خطواتها تختبيء في الشق الآخر من الخيمة ، يستلقي على جانبه ويدعو من الله أن يعجل بنصيبها قبل أن توافيه المنية .
يأتي الصباح بصوت سيارة تقترب ، يجلس الأب ويتكيء على عصاته ليقف ، كانت شيخة قد اقتربت منه حينها ونظرت إلى اتجاه الصوت .
- إنها سيارة محمد .
- حياه الله ، كم أحب هذا الولد ، ما احتجت له سرا وفي نفسي إلا أتاني دون أن أناديه .
- هو بار يا أبي وليتك سمعت كلامه وذهبت بنا إلى المنزل الذي أعده لنا .
- هنا ولدت وهنا أموت ، وإن أردتِ الذهاب معه فلن أمنعك .
- لا يا أبي لن أغادرك أبدا .
تقبل يديه باكية وكان محمد قد نزل من سيارته وشاهد أخته وهي تبكي على يدي والدها . يعجل في خطواته ويقترب من والده ويسحب يده من شيخة ويقبلها ويرتفع نحو جبينه ويقبله ، يأمر شيخة بمغادرتهم لوجود شخص معهم . تفعل ذلك .
- حيا الله حميد
- تحيا وتدوم يا أبو عبدالله .
- ما الذي رمى بك علينا ، لم نتعودك إلا في نهاية كل إسبوع .
- اليوم أتيت محضرا لك من يقوم برعايتك ومساعدتك في شؤون الحياة .
- لا أحتاج إلى أحد ولا أريد أحدا ، وأختك تقوم بما لم تقوموا به أنتم الثلاثة مجتمعين .
- أعلم ذلك يا والدي ، ولكن الإبل تحتاج من يرعاها ، وكذلك قطيع الغنم . وهذا راعي من السودان يجيد فعل ذلك ويجيد أعمال البادية .
- وأين سيسكن هذا ، أم نسيت أن لديك أخت في هذا المنزل .
- لقد فكرت في ذلك ، ووضعت له خيمة وشاحنة وكل ما يحتاجه هناك حيث المرعى .
- حسنا لا أحتاجه هنا ولا يقترب من هنا .
- هو رجل ثقة يا والدي ومتزوج وكبير في السن وملتزم بالدين .
- ولكن لا أريده أن يقترب .
- حسنا لك ذلك
كانت شيخة تستمع لحديثهما ، وهي فرحة بوجود محمد وبحضور هذا الراعي ، فلقد سمعت أن كثيرا من أبناء عمومتهم قد فعلوا نفس الشيء . وارتاحوا في كثير من شؤون حياتهم . تنظر من خلف رواق الخيمة وتنظر إلى الراعي وهو يقبل يد والدها ويجلس معه ، لقد كان رجلا كبيرا في السن انشرحت اسارير ابو عبدالله له واطمئن قلبه ، وأخذا يتحدثان عن الإبل التي كان الراعي يلم بها جيدا ويخبر الشيخ عن إبلهم في السودان ، لقد كان بدوي أيضا ، ويبدو عليه السعادة أن عاد إلى نفس طبيعته بهذا العمل .
راقب محمد الأمر واطمئن هو الآخر وأخذ الراعي معه وغادر والده ، وأوصى الراعي أن يزور والده كل يوم في نهاية النهار ويرى إن كان يحتاج شيئا ، وأن يحضر له فجرا كي يأخذه إلى الإبل ويعيده ظهرا . واتفقوا على ذلك . وعاد محمد بعد أن أنزل أغراضا وموادا غذائية في منزل أبيه ، ودعته شيخة بعد أن سألته عن عائلته ورجته أن يحضر أبنائه في المرة القادمة ، فلقد اشتاق المكان لأرواح الأطفال كي تملأه ، يعدها بذلك ويغادر عائدا إلى المدينة . حيث هناك يغرق الجميع في مظاهر الحياة ومطاردة الرزق ، يتصل بإخوته ويخبرهم عن أداء المهمة وعن انشراح والدهم لهذا الراعي ، يشعرون بثقل عن كواهلهم قد انزاح .
وفي البادية بدأ الشيخ يستعيد جزءا من نشاطه مع هذا الراعي الذي كان يمر عليه فجرا ويذهب به إلى الإبل وهناك يجلسون يشربون من حليبها ويتحادثون برحلات الصيد في السودان ، مرت الشهور على هذا الوضع ، وفي يوم كان الشيخ يجلس فيه تحت ظل ناقته التي تعرفه تماما وتدور باتجاه الشمس كي توفر له الظلال ، كانت ترعاه هي أيضا وتعرف جيدا أنه يحبها ، الإبل مخلوقات تشعر بما يشعر به الإنسان ، تتحرك قليلا عن موضعها ويحس الشيخ أن هناك قادم غريب ، كانت سيارة فيها ثلاثة أشخاص قد اقتربت ، ونزلوا باتجاه الشيخ ، وجلسوا معه قليلا وتحثدوا في أمر ما بدأ أن يخلط الحزن والفرح على وجه الشيخ . يغادرون به باتجاه خيمته ، ويجلسون معه هناك كانت القهوة لا تنزل عن النار يقفز أصغر الرجال الثلاثة ويحمل الدلة ويصب فناجيل القهوة ، تسمع شيخة بكل أحاديثهم وتمتعض ويصيبها حزن شديد وخوف كبير ، ما أن يغادرون حتى تسمع والدها يناديها ، تتقدم منه .
- لن أتزوج .
- اجلسي يا ابنتي واستهدي بالله العلي العظيم .
- لا أريد أن اتزوج يا أبي ، أريد القاء معك هنا .
- هذه سنة الحياة يا ابنتي ، وأريد أن أطمئن عليك قبل أن يأخذ الله وداعته .
- أطال الله في عمرك يا أبي لا تقل مثل هذا الكلام .
- يا ابنتي أنا رجل كبير جدا ، وأن كنتِ تريدين سعادتي فوافقي على هذا الرجل الذي هو من أحسن أبناء عمومتك وسيسعدك .
- ولكن يا أبي .
- هل تعترضين عليه هو .
- لا ، ولكن لا أريد الزواج ، أريد البقاء معك .
- بل ستتزوجين ، وستظلين بجانبي فهم من نفس الهجرة وهذا الرجل يعمل في أحد دوائها الحكومية ، أي أنك ستظلين قريبة مني ، كي أفرح بك وبأبنائك ويملأون علينا منزلنا .
- حسنا ما رأيك أن تأتي للعيش معي .
يغضب الأب قليلا ، ولكن يقدر أن ابنته لم تقصد سوى الخير ، كيف له أن يعيش مع ابنته وهو رجل ، وكيف له أن يرضى برجل غريب يعتني به وهو أب لثلاثة رجال .
- لا يا ابنتي ، لو أردت العيش في مكان آخر فلن اختار إلا أحد أبنائي ، وتعلمين أني رفضت ذلك أيضا .
تصمت شيخة ويملأها تناقض غريب ومنطق مؤلم يجعلها مترددة وخائفة ، يصيبها نوع من الخدر وعقلها تتلاعب فيه الأفكار ، تتوتر وتتمنى لو أن أحد إخوتها هنا . لكن والدها خيرها أنه لن يكون هناك حفل كبير، وأن زواجها سيكون في نهاية هذا الإسبوع بحضور أبناء العمومة المتواجدين في هجرتهم .
- أريد من أخوتي أن يكونوا حاضرين .
- هم يأتون في نهاية كل إسبوع وسنطلعهم على الأمر حينها .
- ربما يعترض أحدهم على هذا الرجل أو يعرف عنه شيئا ما .
- لن يكونوا أدرى مني برجال قبيلتنا ، وأنا والدك وليس لأحد منهم الرفض أو القبول .
- كما تشاء يا أبي .
تأتي نهاية الإسبوع ، كان خالد ومحمد قد وصلهم الخبر وساعدوا في تحضير أختهم وتجهيزها ، لم يكن هناك كثير من التجهيزات لقصر الوقت ، عبدالله منشغل في وظيفته ومتكل على أخويه ، ويعد بالحضور في الوقت المناسب ، يزفون أختهم في أهازيج من الشعر الشعبي ، ويقيمون حفل عشاء يجتمع فيه كل أهل الهجرة ، الأخت تنتظر قدوم عبدالله ، ولكنه يتأخر حتى ساعة رحيلها مع زوجها ، يتقدم منها ويقبل جبينها ويعطيها هدية وبعض المال ، تحتضنه وتوصيه بوالدها خيرا ، يطمئنها عليه ويعدها بأن يزورونه في كل إسبوع وكلما سنحت الفرصة . تغادرهم شيخة التي جعلت حياتهم تسير بهدوء نحو تحقيق طموحاتهم ، تغادرهم شيخة التي جعلت من صحراء والدها جنة تكتنفه برعايتها وإخلاصها وبرها به . تغادر شيخة إلى حياتها بعيدا عن والدها الذي تمنت الموت بجانبه على أن تتركه . تنظر إليه راحلة وهو يستقبل تهاني الحاضرين بعد العشاء ، كم تود لو تقفز من السيارة لتذهب إليه وتحتضنه ، سعادتها هذه تتناقض مع حزن قلبها الذي يتآكل في صدرها رحمة ورأفة بوالدها الأعمى ، يختفي عن نظرها وهو يقف بعصاه لا يعلم أن اتجاه غادرت فيه ابنته حتى يلوح لها .
تمر الأسابيع والأيام ، ويبدأ الإخوة الثلاثة في التباطيء في الحضور إلى والدهم ، والراعي يجد صحبة له من نفس جنسيته ليصبح يتأخر دائما عن خدمة الشيخ الكبير . يحزن على نفسه ولكن شعورا داخليا يتنامى لديه ، رائحة الصحراء بدأت تخف ، وأصوات الليل تهمس بهدوء في إذنيه ، كل شيء يتضائل ، الشق بجواره خافت بارد فروح شيخة غادرته بعد أن كانت تملأه دفئا وحياةً ، يستلقي على ظهره ويتمنى لو ينظر نظرة أخيرة إلى السماء ، يريد أن يشاهد تلك النجوم التي تغنى بها الشعراء ، يفكر في أبنائه الذين ابتلعتهم المدينة ، هل يلعن الزمان أم الأقدار ، يستغفر ربه ويقوم ليؤذن الفجر في وقت متقدم من الليل ، لقد فقد حساسيته للوقت ، يحاول الاقتراب من ممر شيخة ، لكن الرياح بعثرت اطرافه فأصبح مختلطا مع ما حوله ، يمسك عصاه ويتلمس الطريق حول خيمته يبحث عن إناء الماء ، يعجز ، ويبكي في داخله على حالته التي جعلت حتى صلاته مستحيلة ، يعود إلى خيمته يبحث عن إناء الماء الذي كانت تضعه شيخة قرب رأسه ، يقترب منه بعصاه ، لكنه يوقعه وينثر كل الماء ، يرمي بنفسه على الأرض ويصيح مناديا : شيخة ، شيخة ، شيخة .
وكأنها سمعته في ليلتها تلك ، تنهض صباحا وتلح على زوجها أن يغادر بها باتجاه والدها ، يحاول تهدئتها لكنها قلقة وقلبها المضظرب مازال صدى النداء يتلجلج فيه ، أبوها يناديها هكذا تشعر ، تريد الإطمئنان عليه .
يسرع بها زوجها إلى منزل والدها ، يقتربان من الخيمة ، تنظر إليها مبعثرة والرياح قد لعبت في كل الأغراض وجعلتها متناثرة حول المكان ، تزداد قلقا وتوترا ، تحرك رأسها مع نافذة السيارة تبحث عن أي شيء يشير إلى مكان تواجد والدها ، لكنها لا تراه . تتوقف بهم السيارة ، تكاد تقفز قبل أن تتوقف تماما ، يلحق بها زوجها ولكنها تجري صوب الخيمة . تنظر إلى ممرها المندثر وخطوات والدها الهائمة حوله ، تبدأ بتتبع خطواته وهي تبكي وتصيح منادية له ، تقودها الخطوات إلى كثيب رملي اعتاد والدها الجلوس إليه ، تنظر إليه وقد اعتلى التل وجلس على قمته متربعا ومتلملما حول نفسه ، تصعد نحوه باكية ولاهثة ، وكل شيء في الدنيا يدفعها صوبه ، كأنها تصعد نحوه إلى السماء ، تقترب منه وهو يواجه الشرق وقد علته الشمس وأصبحت في كبد السماء ، وجهه بين ركبتيه ورأسه مكشوف تحرقه أسعة الشمس ، ترمي بعباءتها فوق رأسه وتحتضنه وتقبل يديه ، ورغم هذا الظهر الشديد الحرارة ، إلأا أن يديه باردة ، تصرخ في زوجها ، تصرخ في والدها ، تنفضه ولكنه لا يتحرك ، وكأنه صعد هنا محاولا بآخر أمل مشاهدة إشراق الشمس ، صعد هنا ليعلو القمة ويقترب من السماء كي تصعد روحه إليها . تصرخ شيخة في كل أرجاء المكان وتلعن إخوتها ونفسها ، تلعن كل شيء فعله الأبناء بعيدا عن أباءهم ، تلعن الحياة التي فرقت بينها وبين والدها ، تصرخ ويصل صوتها إلى ( غيمة ) التي تبرك وتنوخ حزنا ،وتنوخ شيخة خائرة القوى باكية ينزل دمعها ليختلط بالتجاعيد على يدي والدها ، ويصب على الرمل يرسم نهاية آخر ممر سلكه هذا الرجل في حياته ، نهاية ممر شيخة .
الروابط المفضلة