كنت ولا زلت, أمد أمام ناظري لوحة سوداء كلما أحببت أن أرسم.. أذكر جيدا لحظة سألتني أول مرة: لماذا تعتمد أكثر على الخلفية السوداء, لماذا تعشق الأسود إلى هذا الحد؟..
أجبتها مبتسما: لأن الأسود ببساطة لون يحبني, إن الأسود فعلا يحبني ولست املك إلا أن أحبه, فأنا أيضا أهواه...
أنهيت رسم اللوحة.. تعجبت لإشراقها.. و تساءلت: أعَلى الأسود زغردت أصفى الألوان؟... أجبتها: وأين المشكلة؟ إن الأسود سيد الألوان, إذا شاء لها أن تظهر فُرادى تركها تتزين ونام, وإذا شاء لها أن تمتزج جميعا سمح لها أن تتعانق ثم تلاشى فتراها ابيضت, وإذا شاء لها أن تختفي, نفخ فيها فادلهمت.. إنه الأسود في غرفتي, ستائري الملساء, تداعب جدران قصري الجميل ذلك الذي ورثته في أحلامي من عصر الفوارس والنبلاء... أفرح لرؤياه, فأحب دوما ملامسته حولي.. بهيا على كل شيء.. نقيا في كل مكان..
استغربت ولونت الريبة بسمتها فجاملتها ضاحكا: لكن الأزرق أيضا أهواه.. خصوصا على ...
ولم تكتمل جملتي فقد خجل الأسود من بريق عينيها, فصمتتُ أنا وضحكت هي: أنت مجنون... صدقني أنت مجنون, هذا الأسود سيفتك بك...
لم أنس ضحكتنا الوديعة يومها.. تعجبت كثيرا حينما عرفتْ أن لوني المفضل بعد أزرق البحر والعيون هو أسود الأقمشة والخزائن والأدوات.. حاولتُ تبرير عشقي له نافيا ربطها الأسود المرئي بسوداويتي الدفينة.. صارت تعرف فيما بعد أن الأزرق يأسرني كلما أراه لكن الأسود أطمح كلما رآني أن أأسره.. الأزرق لون أحب أن أراه بينما الأسود لون أحب أن أُرى به.. أشعر بأنه الوحيد الذي يرضي غرور عيوني حينما لا يعجبها حيرة الأشياء المتكسرة على تدرجات لونية قلقة بين مراتب الألوان...
لا أتعب نفسي كثيرا بالبحث, فالأسود يحتويني.. تلفازي أسود, كمبيوتري أسود, طاولتي سوداء وكرسي طاولتي أيضا, جلد محافظي, هاتفي, خزانة كتبي, أحذيتي, حقائبي, وحبر أقلامي, غلاف مذكرتي وميناء ساعتي ومزهريتي وحتى فنجان قهوتي... الأسود اللماع أشتهيه.. على خشب النواصي, على طلاء السيارات, على وشاح المطرية, على مقبض الدراجة, على أطر اللوحات.. إن الأسود أغنيتي.. أشتريه كل عيد, أقتنيه لكل فرحة, أحتضنه عند كل حزن... الأسود الأنيق أتعطر به, أما الأسود الأصم فأمتطيه, أغلف به ذكرياتي, أختبيء فيه من سباتي, أستيقظ به, لأنني غالبا حينما يخطفني الظلام أبصر النور, يقولون أن الأسود ليس "لون", فهو غياب الألوان كلها, كيف لا يكون لونا ذلك الذي يستطيع طمس رؤياك لكل الألوان..
يقولون عنه لون التشاؤم, لكنني أشعر حين أراه بالفرح, الأسود عندي يبتسم.. الأسود أيضا لون الفرح .. للأسود عندي فرحتان, فرحة أولى حين يرتدي العريس البدلة السوداء .. سواد البدلة يثبت للجميع بكبرياء, قوة حضوره الملائكي أمام فستانها الأبيض الوسيم... للأسود عندي فرحتان, فرحة أخرى حينما تنقطع الكهرباء, في بلدي نتعود على رحيلها بانتظام, وحينها تستأنس أكثر بشلل الألوان, ودونها يصبح الأسود أجمل وأجمل.. يطرَب بابتسام حول رقصات الشموع.. من منكم لا تواسيه الشموع حين يشتاق للأمنيات.. الأسود أيضا أمنيتي, تلك التي أتوق إليها فلا أراها, ألم يقولوا أن الأسود يمثل غياب للضوء واندثار للألوان .. أمنياتي لم تشرق بعد.. لأجل ذلك أحيا الأسود .. قد يحقق أمنياتي .. حينها قد يحياني, لأن حبي له راسخ في عراقة كل الأشياء التي أتذوقها.. الأسود قمة في الذكاء لمن يريد الاستمالة.
الأسود يليق بك ... أول رواية سوف أقرأها للكاتبة أحلام مستغانمي ..
ربما لن يصدقني أحد لو اعترفت الآن بأنني لم أقرأ يوما لأحلام.. صدقا لم أقرأ لأحلام لا ربع صفحة ولا سطر رواية, رغم كوني اقتني رواياتها الثلاث... لكنني أشعر بالغربة عنها كلما تذكرت عناوينها الكبيرة.. لا أعرف صدقا لمَ لم أقرأها بعد, ولست متلهفا على قراءتها, فقد أعجبَت الكل وأخشى أن يكون هذا يكفيها ولا يعنيني.. ربما أبحث فعلا عن رواية تعجبني أنا, أنا وفقط.. من هنا سأبدأ حتما فـــ"الأسود يليق بي".. شكرا لك سيدتي أحلام.. لأول مرة أشعر بأن كاتبا ما يكتب لي, يتحدث عني وعن الشخص الذي حتما أحب.. ولأجل ذلك سوف تكون هذه الرواية أول ما سأقرأه لأحلام ... وأعترف مسبقا أنني كنت وسأكون في طليعة جمهورها الجديد...
شكرا سيدتي
ودمت بخير
الروابط المفضلة