لما كنا صغار، كان ممنوع علينا شرب القهوة، رغم إني ما بعرف ليش لحدّ الآن .. بس ممنوع وخلص!
بس تكبري .. بتصيري تشربي قهوة، وبرضو ما بعرف ليش اللي بشربوا قهوة بشربوها أصلاً .. تماماً زي اللي اخترعوا البيبسي قبل 100 سنة، ما حدا بعرف ليش اخترعوه .. ولا ليش بنشربه!
بعد إصرار شديد منها على الحضور وإلحاح أشد مني على الرفض، تنازلت أخيراً واقتنعت بإمكانية حضور أول دورة تنمية بشرية في حياتي
طبعاً أنا ما بعرف شو يعني "تنمية بشرية"، وبغض النظر، هي وفق المعجم المهلّبي: شرٌ لا بد منه لملء الـCV !
ولما تكوني طالبة، ما بتفكري بهيك دورات .. لأنك صغيرة ..
وبرضو .. لما بدك تتوظفي لازم توخدي دورات تنمية بشرية، لأنك كبرتي. ليش بتوخديها .. ما بتعرفي!
المهم إن المفاوضات كانت رح توصل لطريق مسدود مشان أحضر الدورة، لولا أنها تكفّلت بدفع قيمة الدورة التي تحتوي على وجبة غداء وشهادة معمتدة من كندا .. والأهم أن الدورة لمدة 3 ساعات بس .. كل هادا بـ 30 شيكل بس!
والشيكل لغير الناطقين بالفلسطينية يساوي 25 سنت .. يعني كل 1 دولار = 3.9 شيكل
الدورة بأقل من 10 دولار !!
تقريباً، لو بدي أشتري ورقة كرتون وأطبع عليها أي زربيحة لولبية، وأتأجر مكان لمدة نصف ساعة، وأشتري سندويشة فلافل بدون سلطة، وأحكي بشكل متواصل لمدة 3 ساعات، فـ رح أحتاج 50 شيكل بالحد الأدنى ..
ما علينا،
عموماً .. ما حدا بعرف لحد الآن ليش فكروا باختراع البيبسي،
ولا حدا بعرف ليش كلية كامبردج الناس مفكرينها كافيتريا .. تمنح شهاداتها لكل واحد بتغدى وجبة وبسمع كلمتين ، وبس!
ولا أنا عارفة ليش كل نصّاب استراتيجي في عالم التنمية البشرية بلزّق نصبته في كندا أو بريطانيا ..
وبطبيعة الحال .. أنا ما رح أفكر كيف تتم عملية النصب اللي على وشك أن تحدث عليّا وعلى صحبيتي .. والمسمّاة "دورة تخطيط استراتيجي"!
كل شيء تطور، حتى النصب صارله أسماء أنيقة ..
هيك الدنيا، من يوم لما سمّوا الكذب "سياسة"، والتنازل عن المبادئ "براغماتية"، وتشليح الدين من مضمونه "مرونة"!
وبشكل أو بآخر كان على عالم النصّابين أن يخترعوا مسمّى "التنمية البشرية" لزوم بيع الشهادات الكندية والبريطانية الصادرة من مركز أبو طلال لأبحاث الفلافل والتنمية والدراسات الملوخية الاستراتيجية ..
وبرضو ما بعرف ليش كندا وبريطانيا تحديداً!
ما علينا،
-يختي الإسم كبير .. إنتي عارفة شو يعني تخطيط إستراتيجي
=عارفة،
-طيب .. طالما عارفة ليش رايحة ع الدورة!؟
=لازم أروح عشان الشهادة ..
-طيب لو دفعتي الفلوس وما رحتي .. بوخدوا حضور وغياب مثلاً؟
=لأ
-وبتوخدي الشهادة؟
=آه
-حلو .. طيب ليش رايحين إحنا؟
=في وجبة مجانية، ونسكافيه في البريك!
وقتها عرفت إن الموضوع يتعلق بتنمية غذائية مش أكتر ..
المهم،
-أهلاً وسهلا فيكم، بعرفكم عن نفسي: فلان الفلاني، ماجستير علاقات دولية، وحاصل على اعتماد الأكاديمية الكندية لتطوير الذات والدراسات والتنمية البشرية في مونتريال، وعلى زمالة المركز البريطاني للتنمية البشرية والتخطيط الاستراتيجي في لندن ..
طيب؟
برضو بريطانيا وكندا في الموضوع، والزلمة كمّل كلامه، وما حدا حكاله: وين شهاداتك!
وهل عشان بتعرف تحكي كلمتين إنجليزي لازم نصدقك؟ مع يقيني التام أن أبعد منطقة زارها في حياته هي جنوب خانيونس، وأني لو قلتله: ماذا تعرف عن المملكة المتحدة؟ لاستفسر عن المملكة المتحدة، مَن تكون! طبعاً الجماعة في مونتريال بحكوا فرنسي، وهو مش بحاجة إنه يثبتلنا معرفته بالفرنسية من خلال كلمة "ميرسي"!
برضو، ما علينا ..
بدأت الدورة بفقرة التفاعل الإيجابي (هيك سمّاه) وهو يعني النطنطة ولعب تمارين صباحية قبل الدورة، لزوم التفتيح الذهني!
حاولت معرفة علاقة الأمر بالتخطيط الاستراتيجي .. وجدت أن التنطيط على نفس وزن التخطيط! وأن النطنطة تعني بشكل أو بآخر تسريع عملية هضم الفطور تمهيداً لوجبة الغداء المجانية التي وعدتني بها صديقتي .. وهي الأهم في الموضوع على فكرة ..
الغريب أن الجميع قام ينط، لدرجة أني فكرت نفسي في ناشونال جيوغرافيك/برنامج قرود الغابة!
استمر النط واللعب والضحك والحديث عن إبداعات المدرب وهو صغير لمدة ساعة كاملة!
ثم انتقلنا إلى الفقرة التانية من الدورة وهي التخطيط: مبادئه، أهدافه، مفهومه، وكيف تخطط إستراتيجياً؟
كان الأمر كله يتعلق بعرض باور بوينت يبتقدر تحمّله عليه من موقع قناة فتافيت حول التخطيط الاستراتيجي لطبخة بكرة!
خلال ساعة كاملة، سألت صديقتي 12 مرة، بمعدل سؤال واحد كل 5 دقائق: مطوّل الغداء؟ وكانت مطنشاني مدّعية أنها تحاول التركيز في عرض الباور بوينت!
كانت خلاصة الرز بحليب الذي قام بعرضه أننا في غزة نعاني من:
معيقات أكبر من الفرص - بيئة خارجية مهددة - بيئة داخلية مفككة - معطيات نجاح شبه مفقودة - فرص منعدمة!
طيب؟
عاملين الدورة ليش !!
سائد، إبن الصف التالت، وإبن جارنا بالمناسبة، بيعرف هادا الكلام، وممكن يحكيلي إياه بدون شهادة بريطانية ولا عرض باور بوينت!
الغريب إن الخلاصة الرهيبة هاي، سبقها كلام طويل لمدة 5 دقائق عن أهمية التفاؤل وضرورة النظر للأمام، تماماً كما فعل بيل جيتس، مايكل جوردان، ليونيل ميسي، مارك زوكيبربيرغ، والوليد بن طلال !!
وبما أن التخطيط الإستراتيجي مهم، علّقت على هذه الخلاصة الخنفشارية الرهيبة لصديقتي:
سألوا محشش: إنتَ كيف كونت كل هالثروة وإنت كنت معدم؟
قال: أنا بدأت حياتي عتّال بسيط، بعدها تزوجت بنت جارنا أبو محمد الغلبان،
وبعدها بشهر مات أبو محمد، واكتشف أولاده إنه محوّش مليون دولار في بنك سويسري ..
ورثت زوجتي، وصرت أنا مليونير!
هكذا يخطط المحششون استراتيجياً ..
إجا البريك، وحاولت صديقتي الوصول إلى النسكافيه، فلم تستطع لأن 300 إنسان لم يشربوا نسكافيه في حياتهم على ما يبدو!
بدوري، تنازلت غصب عني عن أولى امتيازات الدورة وهي كاسة نسكافيه بـ نصف شيكل،
وبدورها .. راحت اشترت كاستين نسكافيه على حسابها، وعادت مسرعة حتى لا يفوتها البريك!
ابتدأت الفقرة الثانية برضو بعملية تفتيح ذهني، بس عن طريق أسئلة وأجوبة ..
حتى آخر لحظة في هذه الزربيحة الاستراتيجية كنت أتأمل وجوه الموجودين وبسأل حالي: يعني كل هدول عقولهم غامقة .. وبدها تفتيح!
ما علينا،
طلبوا من كل واحد يكتب اسمه على ورقة، ويكتب معنى الإسم لغوياً، ومدى ارتباط الإسم بالشخصية ..
وللمرة الثانية حاولت أعرف شو علاقة الموضوع بالتخطيط الإستراتيجي، واكتشفت إن التخطيط يشمل على محاولة التغلب على المعيقات الداخلية، ومن ضمنها الإسم اللي ممكن يكون مش عاجب صاحبه!
كان شرط المدرّب أنّ اللي بدّو يحكي عن حاله يتفضل يوقف، يمسك المايك، ويحكي عن حاله ..
وتفاجأت إن أسماء الشباب والبنات حلوة بشكل ما كنت أتوقعه !!
يعني ولا واحد طلع إسمع جمعة، أو رمضان، أو فتحي .. كلهم: مهند، سلام، سيف، ثائر .. ولا وحدة من البنات اسمها فاطمة، أو جميلة، أو عزيزة .. كلهم نانسي، لانا، تولين ..
طِلع التخطيط الاستراتيجي يعتمد على تحويل الدورة إلى مسلسل تركي!
وللاستشهاد فقط، فإن ثائر، وهو مدرس ثانوية، أخبرنا أن اسمه (سائر) -بلفظ الثاء سين- وهو يعني لغةً: السير إلى الهدف وتحقيقه!
وبغض النظر عن أي لغة هي التي عرّف عن إسمه فيها، فما حصل أنو ما حدا قصّر بالضحك .. تباً، لقد أعاد سائر السورة إلى أزهاننا وساهم في إعادة تفتيحها للمرة الثالثة على التوالي!
نفس الاختبار السابق، بس كان يتعلق بكتابة نقاط الضعف والقوة .. وأن يكون لدى الإنسان جرأة أن يقوم أمام الكل ليقول نقاط ضعفه!
وعلى صيغة اختبارات الفيسبوك، فإن الجميع أراد إمساك المايك والمشاركة .. إنهم يحاولون اكتشاف أنفسهم استراتيجياً يا قوم!
المهم،
كل نقاط الضعف التي سمعتها تمركزت حول 4 أمور:
الصراحة الشديدة .. الطيبة الشديدة .. الثقة السهلة في الآخرين .. العفوية في التعامل مع الناس!
طيب؟
إذا كانت هذه نقاط الضعف، فما يعني أن الموجودين هنا هم ملائكة بشكل أو بآخر ..
والشياطين اللي بنشوفها كل يوم، من وين هدول ؟!
كان نفسي أن أمسك المايك وأخبرهم: نقطة ضعفي أنني نصّابة، مثلكم، جاية ع الدورة عشان الشهادة ووجبة الغداء ..
لكن صديقتي أقنعتني بأن أروق، وأهدأ!
ولما دقّت ساعة العمل، وجبة وجبة .. قصدي إجت الوجبة
كان الأمر قريباً من فكرة الدورة: تخطيط إستراتيجي .. بدون تخطيط!
وكانت الوجبة .. بدون وجبة.
سندوتش فينو أبو الشيكل محشو بـسحسولة جلاميط اسمها "صدور دجاج" مع كيس كاتشب بيعطوه في المطاعم ببلاش !!
تحسبنت على الدورة، والمطعم، والسندوتش، وصحبيتي، والتخطيط الغذائي وكل أنواع الريجيم ..
.
.
قبل أن أنصرف، طلبوا منا كتابة تقييم حول مفهوم التخطيط الاستراتيجي الذي خرجنا به من الدورة ..
كان معي ورقة بحجم كفّ اليد، كتبت عليها:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــ
^ هذا هو التخطيط .. أما الاستراتيجي فهو أن تجعل الخطوط طويلة، خطوط خمسية يعني!
وإنه لطُز ..
-
*رنا العلي/مجاهدة الشام - مدربة تخطيط استشرافي واستراتيجي .. 2X1 شامبو وبلسم يعني!
#تنمية_بشرية_بالملوخية_بدون_رز
#كيف_تخطط_إستراتيجياً_بدون_نسكافيه
#التنطيط_في_أهمية_استراتيجية_التخطيط
#عبّي_الCV_وإربح_وجبة_مجاناً
#لا_يزال_الكاتشب_في_جيبي
الروابط المفضلة