مَقَامُ اللَّيَالِي.
كل الحكاية بدأت بكتاب انفتح على الخوف، وانتهى في قلب النّار، قبل أن ينام نهائيا في عمق لغة مكسوة بالزغاريد، تشبه الصراخ والخوف قليلا.

لست مهمًّا. أنا راوي الصّدفة. وراوي الصّدفة معذور لأنه لا يقول في النهاية سوى مشاهداته ومكاشفات من عاشرهم من الڤوالين الذين لم يبق منهم في عصرنا الحالي الكثير، في ظل مخابر البحث المتخصصة في شأن البشر وتاريخهم. ربما كنتُ العملة النادرة في هذا الزمن الذي غرُبَ، أو هو بصدد الأفول، ماسحا في مسالكه كل الأيادي البيضاء والرمادية والمعتمة، التي صنعته.
ما سأحكيه قد لا يصدّقه الناس بالبساطة المعهودة، لأنه يقع في صلب ليلة الليالي، وفي حواشيها، وخارج الحساب الزمني، وميزان الكسور والثواني والدقائق والساعات والأيام، وربما السنوات أيضا وحتى القرون. ولأن الليلة ثقيلة إذِ انبنتْ عليها شعلة الموت والأمل، لا يحكيها إلا من غُسِل بلهيبها من قريب أو من بعيد، ومن غُمِّسَ في رذاذ رمادها، وَقُمِّطَ بأشلائها التي انجلت مع الفجر الأول للحياة. وحتّى من احترق بنارها التي سمَّاها الأولون من الأخيار بنار الجنة لأنها لم تحرق الأخضر واليابس، ولكنها هدَّمت سور الخوف، وكلَّ ما تصلَّب وأصبح حطبا جافا يصلح لأن يكون طعما للهب المقدس.
في تلك الليلة، ليلة الاستثناء والرعشة، بدت بلاد آرابيا غريبة كأنها تصحو من كابوس طويل. كان الناس في عمق الدهشة، ما يزالون يمضغون مرارة ممزوجة بفرح عميق وبعلامات حلم لم يتمَّ أبدا، وبأسئلة معذِّبة سرت في الدم كالنار في الهشيم: كيف كنا عبيدا على مدار عشرات السنين، وربما القرون المتهالكة التي ربَّت فينا حاسَّة الذلّ لدرجة أن أصبحتْ سادس حواسِّنا؟ كيف قبلنا أن نضع أحلامنا وأجسادنا في ظلّ الحكيم، الحاكم بأمره، سيّد آرابيا، سلطان السلاطين، وملك ملوك العرب وإفريقيا والبربر، ومن جاورهم من ذوي السلطان الأكبر، كما يشتهي أن يصف نفسه؟ كيف صمتنا على يد قاتلة، كانت في كل لحظة تضغط على الأعناق بكل ما أوتيت من إيمان و قوة، وكنَّا نختنق ونموت في كل ثانية عشرات المرات، وعندما نفتح أعيننا بين الغفوة والغفوة، نجده يتلمس وجوهنا ويدفئنا بابتسامته التي خسَّرتنا آخر ما تبقى فينا من رجولة وشجاعة الأجداد.
خسرت بعض ملامحي. قلبي تعطل جزءه الأيمن، أي الأقل أهمية، هشاشتي وكل حواسي الحية مجتمعة في جزئه الأيسر، وهدا لم يمس وأحمد الله تعالى على ذلك. لكن الجسد لم يعد يسعف مثلما كان الحال في الزمن المنسحب. أصبح أكثر التصاقا بالأرض، كل يوم يتوغل فيها قليلا. ولم يعد يرقص ويحلق مثلما كان يأمره جنونه في الزمن الخالي. مخي تهاوى قليلا وبدأت لطخات الظلمة تسرق مساحة نوره. الأطباء السبعة الذين زرتهم، مغيرا في كل مرة التحاليل والأجهزة الطبية، والانطباعات البشرية، أجمعوا بلا استثناء على أنها العلامات الواضحة لمرض الألزهايمر أو الخرف، حيث تفقد العيون ألقها القديم وتشخص في أزمنة تذهب وتجيء مثل الموجات المتناوبة، ويتحول المخ المنهك من ثقل ما وقع عليه وما تحمّل، إلى مجرد إسفنج يابس، لا ماء فيه ولا روح، تتلوها بلادة مقلقة، قبل أن ينطفئ كل شيء. ولهذا كله صمَّمت، الآن، الآن في اللحظة هذه، وعلى هذه الحافة القلقة من البحر المنسي، التي لا أدري ماذا سيحدث بعدها، أن أعْصُرَهُ للمرة الأخيرة مثل الخرقة المضمَّخة بالعرق، حتى يفقد كل مائه وأغفو بعدها في سبات العادل الذي ينزلق شيئا فشيئا نحو بياض لا سلطان له فيه ولا عليه. بياض بدأ ينتابني من حين لآخر قبل أن أعود إلى اللحظة الأولى حيث الموجة تأكل الموجة، وكل شيء صاف ومشرق لدرجة إعماء البصر. الشمس التي تغسل السماء كل صباح، تغسل أيضا سطع البحر وتحوّله إلى نور كلّي بألوان لامتناهية يصعب تحمل ألقها ودهشتها وسطوتها على العيون المنبهرة.
الآن هدأ كل شيء، وبانت الأشجار والفراشات والألوان التي ظلَّت زمنا طويلا متخفية وراء سواد الأدخنة وحرائق الأجساد اليابسة. الأشكال الغائمة بدأت تتضح شيئا فشيئا. وبدأتُ معها أسترجع بعض حواسيّ، وأشمّ عطرَ الأشياء المحيطة التي توقفتُ عن شمها منذ زمن طويل، كلما عددت أوقاته، ندمت على تيهه الكبير الذي سرق منّي الكثير. ومنْ منَّا لا يندم على زمنه عندما يكون الفناء هو مآله الأخير؟
آن الأوان لأحني رأسي قليلا وأكسر هذا الصمت التي بلّد حواسي، واخترق كل شيء جميل فيَّ، وسطَّح ما تبقى من عزّ دفين.
ليْلة اللَّيالي هي الليلة الوحيدة التي تأتي من حيث لا ينتظرها أحد، وتَسحب مثل موجات تْسُونامي كل شيء في طريقها، البشر والفلسفات والأفراح الوهمية والخيبات المتغطرسة، قبل أن تتحول إلى طوفان يشبه طوفان الكتب المقدسة الذي يعقبه الصمت المريب حيث لا حياة، لا عصافير، لا شدو ولا أشجار، تماما كما في بدء الخليقة. ويحتاج الناس إلى زمن طويل ليستوعبوا ما حدث لهم. لا تشبه في شيء اللّيالي العاديات الموريات. موجة ساحقة لا عيون لها، لا ذوق، لا قلب لها، وربما لا ذاكرة لها أيضا لأنها هي المحْو عينه. ذاكرتها يصنعها من ينجون من زحفها ومسحها الكاسح. أشهد بعد هذا العمر أنه لم يعد لديَّ ما أخسره، ولا ما أربحه أيضا، ولا حتى ما يعنيني. لقد أقسمت أمام مرايا الصباح التي رتَّقت كسورها بالنار التي ألهبت أعماقي، أن أقول الحقيقة ولا شيء آخر سوى الحقيقة، كما لمستُها بنفسي، أو كما روتها المخطوطات الضائعة في بلاد أوسع من بحر وأضيف من مسافة رمشة عين.
بقي أن أقول، لا عبقرية لي فيما أرْويه. شيء عِشتُهُ، شيء أحسسته أو ربما كان مجرد حلم قبل أن تحوله الموجة العارمة من رؤيا إلى حقيقة، وشيء سمعته في أسواق الڤوّالين الصادقين الذين انطفأوا في وقت مبكر، أو بكل بساطة، جاءني مع الرياح الساخنة القادمة من صحاري القفر والفقر، أو تلك الباردة التي غطتني بها مرتفعات القلب وأجنحة الروح. فإذا ما صدّقني الناس، فذلك ما أرجوه، فأنا في النهاية ابن زمني بكل ميراثه، من الناجين بالصدفة من زحف الموجة القاتلة التي لحقتْ بها شمس مغسولة من أي غبار ومن أي لون، لأول مرة أراها في حياتي، وإذا ارتآني الناس مجرد دجَّال، ورجل عابر في زمن يركض بسرعة نحو حتفه، يقصّ خرافات وأوهام ثقيلة ليخِفّ من حرائق داخلية أكلت أباه وأمه فيتَّمته في وقت مبكر، قبل أن تأكل أخاه الأوحد، وابنه الأوحد، وحفيده الأوحد، عليهم أن ينتظروا قرنا آخر ليتأكدوا من صدق ما حدث في جملكية آرابيا، ومن أن الهواء الساخن الذي أحرق الوجوه كل هذا الزمن، لم يكن كابوسا، ولكنه كان شيئا يشبه الحقيقة قبل أن ينزلق نحو أناشيد الڤوالين الذين منحوه ما شاءوا من ضحكاتهم ودموعهم وحنينهم.
هل يجب أن أُذكِّر مرة أخرى أن كل شيء بدأ بكتاب، وانتهى أيضا بكتاب؟ عفوا، بدأ بحرقة قاسية جدا، تلتها سيول من الشجن بسبب حروب إخوة الدم والدين، وكمّ لا يُعد ولا يُحصى من الوقائع التي صعب عليَّ فهم الكثير منها لحظتها، قبل أن ينتهي كل شيء في عمق كتاب دُفنت فيه أسرار جملكية آرابيا وحاكمها، وصُنَّاعها الذين اندثروا في أثرها. كان الحاكم بأمره، ومن سبقوه، يظنون أن الناس الذين همسوا في آذانهم على مدار القرون قد أفادوهم، وخافوا عليهم، لكنهم في النهاية عجلوا باندثارهم المتواتر، وتحويلهم إلى حكاية طويلة لن ينتهي أبدا رجع صداها لأنها في جرح الناس وفي دمهم.
الحاكم بأمره كان بدء الحكاية ولم يكن منتهاها. الناس عندما صعدوا فوق ركام الحرائق والدبابات التي تحولت فجأة إلى قطع ميتة من الحديد الثقيل وصدّأتها النيران المشتعلة والأمطار والحرائق بسرعة، كانوا يعرفون أن زمنا انتهى، وأن زمنا آخر ينتظم في الأفق بالكثير من اليقين، ربما كان أشد قسوة، ولكن أقسموا على أن يغيروا كل شيء، حتى المواقيت والساعات الخادعة التي ضبطت على دقات قلب الحاكم بأمره، صاحب جملكية آرابيا.
كل شيء بدأ بكتاب... وها هو اليوم يعود إليه. قد ينفتح بدوره على كتاب آخر لا أحد يعرف أسراره الخبيئة، ولا بلاغته الخادعة. لا أحد يعلم متى يتمّ الإنباء عن ذلك إذ يكذب المنجمون العالمون حتى عندما يصدقون وتسندهم الصدفة.
لا صدفة فيما حدث. كلّ شيء جاء مثلما كان محفوظا في كتب النور. وكل ما نتمناه ونريده أن يُفتح هذا الكتاب على بعض الخير...
على كل الخير...
الروابط المفضلة