مقدمة لا بد منها
بادئ ذي بدء أنبه القارئ الكريم وأقرُّ وأعترف وأبصم بالعشرة بدل الإبهام وحدها؛ على أنني لست بكاتب ولا من هواتها، بل لم أحاول مجرد المحاولة من قبل، ناهيك أن يخطر ببالي يومًا ما أنا بصدده اليوم من إطلالة "بتفاهاتي" هاته وعرضها على من سيتيسر له الاطلاع عليها من جمهور النت الذي يتزايد عدده يومًا بعد يوم، وهي الوسيلة التي أضحت ملاذ المظلومين وصوت من لا منبر له من أبناء الملل عامة وملة الإسلام خاصة.
لهذا فإنني أستسمح القارئ الكريم على هذا التطفل الذي أرغمتُ عليه بعد إلحاح شديد من أحد أعز رفاق المحنة والقيد الذي ظل يلاحقني لسنوات عدة مذ قراءته لبعض من خربشاتي التي كنت أخطها على ورق خاص أصنعه من علب الحليب الكرتونية بقلم رصاص لا يتجاوز حجمه عقب سيجارة كنا نخفيه بإحكام في ثقب مموّه على جدار مرحاض الزنزانة التي جمعتنا في أيام السجن الأولى، وقبل أن (تفتح لنا الدنيا ذراعيها) ونحصل على أوراق وكتب وحتى التلفاز والهاتف وبعضًا من الكرامة والآدمية التي انتزعناها بعد سلسلة إضرابات عن الطعام فقدنا فيها بعضًا من إخواننا وكيلوغرامات من أوزاننا وخرج منها الكثيرون بعلل لا تعد وشحناء كادت تعصف بالصف كان الخلاف بشأن التأصيل الشرعي للإضراب عن الطعام سببًا في انطلاقتها وإذكاء جذوتها.
حين اقتنعت على مضض بفكرة الأخ السالف الذكر -فرج الله عنه- وجدتني قد فقدت جل تلك الأوراق التي كنت أعمد إلى نقعها في الماء بعد تمزيقها قطعًا صغيرة حتى يسهل جريانها في بالوعة المرحاض خوفًا من "حملات التتار" وهي التسمية التي نطلقها على فرق التفتيش التي يُنتقى أفرادها من بين أخبث وأقذر حراس السجن؛ فلا يتوانى الواحد منهم عن إدخال يده في ثقب المرحاض، ويقرأ بتهجٍّ علب الأدوية، ويعمد إلى خلط مسحوق الغسيل مع حصة العدس، ويقلب كل شيء رأسًا على عقب بغية الاستفزاز.
فاضطررت إلى العودة إلى ذاكرتي المثقوبة كغربال محاولًا عصرها لمقاومة إحدى آفات السجن ومخلفاته الخطيرة على السجين وهي النسيان، مستعينًا ببعض شهادات الإخوة وتجميع وقائع وأحداث وطرائف ليكتمل هذا العمل الذي أحتسبه عند الله عز وجل. وأتمنى أن يوفي الغرض الذي كتب لأجله من فضح للظالمين، ونصرة للمظلومين واستنصارًا للموحدين، ولنقول ولنرفع عقيرتنا لمن له أذن أو أصغى السمع للنداء.
نحن هنا.. نحن هنا.. نحن إخوانكم.. فلا تبخلوا علينا بواجب النصرة، وأقله الدعاء، والحبيب الصادق المصدوق يقول: فكوا العاني، فكوا العاني.
أعود وأستسمح للمرة الألف القارئ الكريم إن أنا شططت في العبارة أو لم أوفق في الإحاطة بالموضوع كما ينبغي أو زللت وأخطأت فالكمال لله وحده. وكم أكون سعيدًا إن كُتب لتعليقات القراء أن تتسرب وتصلني خلف هذه الجدران بعد كل حلقة تنشر، كما كتب لمحاولتي هذه أن تتسرب خارجها. خاصة ملاحظات ونقد أهل التخصص في مجال الكتابة الأدبية علِّي أستطيع تدارك بعضٍ من أخطائي في الحلقات التي تليها. فلا تبخل عليَّ أخي وأختي بالمساعدة والنصح والتوجيه حتى يكتمل المشروع ويوفي الغرض والمأمول منه ونقتسم أجر ذلك معًا بإذن الله.
شذرات من أقبية الأبالسة
مذكرات ضحية من زمن الإنصاف والمصالحة المزعومة
1
الرابعة صباحًا.. أفقتُ مذعورًا أرتجف.. كانت الضربات القوية تهزُّ الباب هزًّا عنيفًا.. والجرس يرن دون توقف يوقظ الكامن في قلبي.. ابنة أخي الصغيرة تصرخ في هلع وتتشبث بتلابيب أمها.. شقيقتي تقف مشدوهة مصدومة كالبلهاء وكأنها فقدت صوابها.. وقع أقدامهم يزلزل سقف البيت، ينطون فوق الجدران وأسطح الجيران كأفراد عصابة سطو محترفة.. انهارت والدتي المسكينة وبدأ جسدها يرتجف وهي تبكي وتشهق بحرقةٍ لا مثيل لها من هول الصدمة مرددة: "هذا ما كنت أخشاه يا بني.. هذا ما كنت أخشاه"..
همستُ لها بعد أن عانقتها وأنا ألهث كحصان رهان مهزوم محاولًا التخفيف عنها والتهديء من روعها، لا أدري كيف خرجت الكلمات من فمي: "لقد عادوا.. اصبري يا أمي.. اصبري فلك أجر عند الله"..
ما إن فتح أخي الباب حتى صرعوه أرضًا على ظهره.. تدفَّقوا كالكلاب الجائعة أو الوحوش المنفلتة من أقفاصها، وبدؤوا ينشبون سكاكينهم وأيديهم في الأفرشة والوسائد، وهم يطلقون أقذع الشتائم وألفاظ السوق..
احتجَّ أخي في أدب وخوف قائلًا: "نحن أسرة محترمة.. ولم نرتكب أي جريمة حتى تعاملونا هكذا"..
قال أحدهم: "كلكم تكررون نفس الأسطوانة"
-"اسألوا عنا كل الجيران.. أقسم بالله العظيم"..
قاطعه كبيرهم مرة أخرى: "نحن لا نظلم أحدًا ولا نلفق التهم دون أدلة".. (اللي دار راسو في النخالة كينقبو الدجاج)
شجع الحوار الهادئ نسبيًّا شقيقي وجرَّأه أكثر: "لو سمحتم أريد أن أعرف من أنتم وأريد رؤية إذن الوكيل العام بالتفتيش"..
قهقه قائدهم ثم اقترب منه وجذبه من كم منامته صارخًا في وجهه بعنف:
"تريد الهوية وإذن الوكيل العام يا أستاذ.. خذ ها هو هو الإذن".. وبحركة خبير متمرن صعقه بعصاه الكهربائية على خده.. خارت قوى شقيقي فسقط أرضًا مغمى عليه.. ازدادت صرخاتُ النساء والأطفال ارتفاعًا دون أن يعبأ بهم أحد..
ثم جرُّوني إلى الخارج حافي القدمين دون أن يمهلوني لانتعال حذائي حتى..
حاولت والدتي المسكينة التشبث بي ومنعهم وهي تبكي وتصيح: "خذوني مكانه إنه مريض إنه مريض"..
حين فشلوا في إقناعها بأني سأعود بعد ساعتين على الأكثر لأن الأمر لا يعدو أن يكون إجراءً بسيطًا وبضعة أسئلة؛ قذفوها كالكرة في الممر المؤدي إلى الدرج وسحبوني.
ها قد عادت الأيام السوداء مرة أخرى.. أين المفر؟ إنه قدري الذي لا مفرَّ ولا فكاك منه.. لكن ما يجري هذه المرة يبدو أنه ليس كالمرات السابقة.. الخطر ماحق.. ومنذ صدور التقرير الأمريكي الذي صنَّف أبناء هذا البلد على رأس قائمة من يعكِّرون صفو حلمهم بمشروع عالم إسلامي جديد ويضنكون عيشهم بدمائهم وأشلائهم على أرض الرافدين.. صاروا منذ ذاك الحين كالكلاب المسعورة.. "حرك السيد السوط فضاعف العبد المجهود".
هل نصيبي أن أعاني مرة أخرى وأتعذب.. فلم أكد أصدق أن خلاصي منهم قد حان حتى وقعت بين أيديهم من جديد..
الصدمة والمفاجأة تسيطر علي، رجحتُ أن الأمر قد كُشف.. كنت على وشك الرحيل إلى غير رجعة.. نعم إلى غير رجعة.. قررت أن أترك لهم الجمل وما حمل، وإن كنت لا أملك لا جمل ولا حمل.. بل حتى ثمن كيلو من شحم سنامه لم أجده يوم احتجته كعلاج شعبي وصف لي لتسكين آلام صدري.
وأنا أنزل معهم الدرج.. درج البيت.. خارت قواي.. فشلت ركبتاي.. دارت بي الأرض.. تبخرت أحلامي الجميلة.. واسودَّ كل شيء أمامي.. تبًّا لهم.. لو أمهلوني أسبوعًا فقط.. أسبوعان على الأكثر.. لقبضوا على الريح، ولم يقبضوا علي.
يتبع
الروابط المفضلة