.
تطوح يدها . .
عبثا تحاول ألا يجرفها التيار . .
المياه الباردة تغمرها ، يتسرب الماء لأنفها . . تختنق . .
" رباه . . إني أغرق " . .
ترتجف قليلا من الماء البارد ، وكثيرا من فكرة الموت . . كيف حدث هذا ( لم أكن مستعدة لهذا ) . .
عشرات المشاهد والأسئلة المفاجئة التي لا وقت لها . .
تخور قواها . . يجرفها التيار كلوح خشبي تافه لا وزن له . .
شيء ما بداخلها يصر على أن تحاول ، ألا تستسلم ، أن تتشبث بقشة لا وجود لها . .
تخور قواها أخيرا . . ترفع يدها كأنها تودع الحياة ، إنها النهاية . .
لم تعد تحتمل . .
تغمض عينيها وتتحشرج أنفاسها . .
- " تماسكي . . "
( هل تهلوس . . ؟ )
- " تماسكي . . اصمدي قليلا " . .
يد صلبة دافئة تطوق معصمها . . شيء ما بداخلها يستيقظ . .
" لا تتركني " . . تنطقها بهمهمة مبللة بالماء المالح . .
تجذبها اليد بقوة ، تنتشلها من أعماق الماء . . تتنفس أخيرا . .
تسعل بقوة . . تحاول أن تبصر . . المشهد ضبابي غائم . .
" من أنت ؟ " . .
يتسمر الوجه الضبابي لثوان . . ثم يبدأ كل شيء في التلاشي . .
تستعيد قواها ببطء فتهتف : " من أنت ؟ " . .
يستمر كل شيء في التلاشي مع الضوء الباهر . . شعور الخدر يسري بجسدها . .
تسعل عدة مرات . .
" هه .. ؟ " تسعل بقوة ويرتجف جسدها . .
تبدو الستائر ، تتحرك مع الريح سامحة لضوء النهار بالدخول . .
تستعيد وعيها ، إنها في غرفتها . . تتصبب عرقا باردا . .
" يا إلهي . . كان حلمًا آخر ، كان كابوسا " . .
لا زالت تلتقط أنفاسها .
* *
- " سئمت ذلك . . لا ، لن أؤدي تلك الأغنية وتلك الكلمات وتلك الحركات الغبية " ، تهتف بغضب . .
- " كما تشائين ، ولكنك تعلمين العواقب " .
يغادر متجهما ، هو أحد كتّاب أغانيها ، تتبعه ببصرها إلى أن يغلق باب الاستديو . . تراه عبر الفاصل الزجاجي وملامحه تتحول كالحرباء ، يتخذ " الشكل السعيد " . . ابتساماته مع الرفاق وضحكاته التي تخفي تحت هذا المظهر أحد ضباط المخابرات المسؤولين من قسم الشفرات . .
" يا إلهي يا له من ثعبان " . .
تطرق برأسها في صمت . .
إنها تعرف أنها ستؤدي هذه الأغنية المطلوبة صوتا وصورة . .
تعرف أن اعتراضها اليائس البائس ليس إلا محاولة حياة وليدة يتم وأدها ، عبرها أيضًا . .
ترفع نظرها إلى " الثعبان الضاحك " كما تتخيله عبر الفاصل الزجاجي . .
لقد عشقت الموسيقى والغناء منذ كانت طفلة ، وأدخلتها موهبتها وشخصيتها المجال من أوسع أبوابه لكنها حمقاء - تلوم نفسها - لم تكن ترى سوى الفلاشات والابتسامات ومظاهر السعادة والمال ، بينما هذا قمة جبل يعلم الله ما يخفى منه . . تماما كما يتخيل الجمهور أن النجم يعيش في الجنة المفقودة . .
يدلف مؤلف الأغاني / الضابط ثانية ليسألها :
- " هل لا زلت عند رأيك ؟ " . .
تمد يدها ، رأسها مطأطأ دون أن تنظر إليه ، تبدو أمام نفسها كشحاذة في رصيف الميناء . . يناولها الورقة ويغادر دون أي كلمة زائدة .
تطالع الورقة بعيون زائغة . . نصف الكلمات - فضلا عن الحركات - لا تفهم مغزاها ولكن أخبروها أن هذا لمصلحتها وأن المعرفة على قدر الحاجة . .
" تبًا لهذا العالم القذر " . . تمتمت ، قد تكون شفرات عمل إرهابي - معلومة عن شيء ما - تمويه - لا شيء . . أي شيء ، لا تعرف ولا تريد أن تعرف ولكن يخيفها بشدة أن تكون أداة . .
إنهم وحوش حقيقية لا تعرف الرحمة ، وفي كل مكان كالأخطبوط . . هذا ما أدركته متأخرا ، هذا العالم - بل كل العالم - يعج بالأجهزة الاستخبارية والمنظمات والمنظمات المضادة . . كل ما يهمها ألا تتسبب في أذى لأحد ، لكن ما سيقتلها حقا لو رفضت وعاندت ثم أصيبت والدتها أو ابنها بمكروه . . ( كيف سأسامح نفسي ؟! ) . .
تتمنى أحيانا لو أنهم أنهوا حياتها تحت ستار " الانتحار " كما فعلوا مع غيرها من النجوم فتنطفيء همومها وترتاح للأبد وتأمن على عائلتها . .
إنها ليست مثالية . . لكنها تخشى الانجراف . .
في قرارة نفسها تخشى كثيرا من أن تصبح عبدة كاملة العبودية . . أن تتحول تماما إلى دمية مسلوبة الإرادة حتى دمى المانيكان لها قيمة حقيقية أكثر منها . .
لقد اختطت لنفسها خطوطا حمراء ، وتخشى يوما أن يجبروها على تجاوزها . .
" يا إلهي ، ساعدني " . .
تعتصر يدها الورقة أكثر .
* *
عدة أغاني في هذه الجولة ، ساعة من الغناء على المسرح ، يتفاعل معها الجمهور . .
تختم بأغنية ( رسالة في زجاجة ) . .
من الأغاني " الحرة " كما تسميها والتي يسمحون لها باختيارها أو كتابتها كنوع من التنفيس ولإبقائها ككائن حي . .
تذكر كيف كتبتها بنهم على مدار أسبوعين ، وكأنها تكتب نداء استغاثة عاجل وتأمل أن يمر من تحت أعين وآذان القراصنة . .
رغم قصر مدتها والتي لا تتجاوز الخمس دقائق ، إلا أنها شعرت أنها دهر . .
كانت تحدق في وجوه الجمهور تارة وفي فرقة العزف تارة ولا تراهم ، كان جسدها معهم إلا أن ذهنها في مكان آخر حتما . .
لم تشعر أنها انتهت إلا عندما شعرت بدمعة ما أو أكثر تتسلل على وجنتيها . .
تنهمر دموعها وسط التصفيق الحاد . .
دموع الفرحة والنجاح والمجد . . كما سيصفها النقاد ، وشركة الإنتاج . .
دموع التأثر . . كما يراها الآن الجمهور اللاهي المبتهج دوما . .
دموع الأداء التمثيلي . . كما سيصفها ضابط المخابرات المكلف بها والذي يطلق عليها لقب " سيدة الشفرة الناعمة " . .
وحدها تعرف أنها دموعها هي . .
تخصها وحدها . .
ووحدها تعرف سببها .
* *
قلما تستقل القطار . . تفاديا للمعجبين وهربا منهم ، ولكنها في بلدة أخرى صغيرة الآن والوقت صباحا . .
لن تجد الكثير من المعجبين هنا وفي هذا الوقت . .
إنها مختنقة من كل شيء . .
وتهرب . . ( ممن ؟ وإلى أين ؟ ) تسأل نفسها . .
تتخذ مقعدا بجوار النافذة . .
تتأمل الطريق ويجول ذهنها مع الأشجار وأعمدة الإنارة العابرة سريعا . .
- " هبطت إليكَ من المحل الأرفعِ " . .
تتموج الصور المسرعة في ذهنها ، تسرح أكثر بالنظر من النافذة . .
- " ورقاء ذات تعززٍ وتمنعِ " . .
شعور بالراحة ينتابها تدريجيا ، الراحة التي لم تجدها منذ زمن في بيتها أو مع رفاقها ، تلتفت . .
أمامها يجلس شاب ، يضع ساقا فوق الأخرى ممسكا بآلة موسيقية وترية . .
يعزف ويشدو بينما يستمع ركاب العربة في صمت . . كل وجه شارد . . كل وجه في عالمه . .
- " محجوبةٌ عن كل مقلة عارفٍ " . .
كل وجه ينظر في اتجاه ، ومن ينظرون من النافذة ربما لا يرون الطريق العابر . .
- " وهي التي سفرت ولم تتبرقعِ " . .
شاردون ، لكل منهم قصته . . يتسرب اللحن لأسماعهم حثيثا . .
- " وصلت على كره إليكَ وربما ،، كرهت فراقك وهي ذاتُ تفجعِ " . .
- تلتفت وتسأل الشاب : " معذرة . . ما هذه اللغة ؟! "
يجيب بهدوء : " إنها العربية يا سيدتي " .
- " وما الأغنية . . ؟ "
- " قصيدة شعرية . . لعالم وطبيب مسلم اسمه ابن سينا عاش في القرن العاشر " .
- " جميلة . . وماذا تقول ؟ "
- يبتسم ويهز أوتاره : " ربما هذا شيء يطول شرحه يا سيدتي ، هل عندك وقت ؟! " . .
تحييه بابتسامة وهزة رأس ، تسند رأسها للخلف . .
تمر الصور المسرعة بالنافذة وتختلط ببعضها . .
تتسرب الموسيقى لأذنيها . .
تغمض عيناها ، يغالبها النعاس . . فيما يتواصل النغم . .
" أنفت وما ألفت فلما واصلت ،،
أنست مجاورة الخراب البلقعِ . .
وأظنها نسيت عهودًا بالحمى ،، ومنازلًا بفراقها لم تقنعِ . .
حتى إذا اتصلت بهاء هبوطها ،، من ميم مركزها بذات الأجرعِ . .
علقت بها ثاء الثقيل فأصبحت ،، بين المعالم والطُلول الخُضّع . .
تبكي وقد نسيت عهودًا بالحمى ،، بمدامعٍ تهمي ولما تُقلعِ . .
وتظل ساجعةً على الدمنِ التي ،، درست بتكرار الرياح الأربع . .
إذ عاقها الشرك الكثيفُ وصدها ،، قفصٌ عن الأوج الفسيح المربعِ . .
حتى إذا قرب المسير إلى الحمى ،، ودنا الرحيل إلى الفضاء الأوسعِ . .
سجعت وقد كُشف الغطاء فأبصرت ،، ما ليس يدرك بالعيون الهُجعِ . .
وغدت تغرد فوق ذروة شاهقٍ ،، والعلم يرفع كل من لم يُرفعِ . .
فلأي شيء أُهبطَت من شامخٍ ،، عالٍ إلى قعر الحضيض الأوضعِ . .
إن كان أهبطها الإله لحكمةٍ ،، طويت على الفطن اللبيب الأروعِ . .
فهبوطها إن كان ضربة لازبٍ ،، لتكون سامعة بما لم تسمعِ . .
وتعود عالمةً بكل خفيةٍ ،، في العالمين ، فخرقها لم يُرقعِ . .
وهي التي قطع الزمان طريقها ،، حتى لقد غربت بعين المطلعِ . .
فكأنها برق تألق بالحمى ،،
ثم انطوى فكأنه لم يلمعِ . . "
* *
" تماسكي . . "
.
الروابط المفضلة